بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 26 يوليو 2013

قبيلة كنتا بين البداوة والتمدن للباحث الاستاذ عبد الله موما البوعطاوي


هجرات الحسانية قد نشرت النظام القبلي الحربي ، و حياة البداوة الظاعنة مما أدى إلى تقلص الحياة الحضرية و إنحصار حياة الإستقرار ، هذا ما يفسر إنحصار المدن بمجال البيضان بعيدا إلى الشرق حيث يقل نفوذ هاته المجموعات القبلية أو ينحصر، و إذا إستثنينا إمارة أولاد مبارك الحسانية التي قامت ببلاد الحوض الموريتاني في الفترة ما بين ( 1712 – 1854 )، التي نمت و ازدهرت و بسطت هيمنتها على المنطقة ، و التي عملت على إستيعاب حاضرة ولاتة و حمايتها ، من هنا توافرت حدود مقبولة من الأمن لقوافل الميرة و مصادر العيش لزوايا المدن و البوادي الواقعة تحت نفوذ هذه الإمارة ، و إلى يومنا هذا لا زالت سيرة أمراء أولاد مبارك طيبة في مجمل البلاد البيضانية لما يشاع عنهم من عدل و حسن سياسة و تدبير ، و الأكثر من ذلك ما تحلى به هؤلاء الأمراء من نزوع نحو التدين ، و رغبة في التعلم حتى أن السلطان ( الأمير ) كان يسلم يوم توليته السلطة لوح سلفه مستأنفا الإفادة من دروس الفقه التي يقدمها يوميا كبير قضاة الإمارة و قد نزعت الإمارات البيضانية إلى "الذود عن أهل العلم والصلاح" .
لقد كانت علاقة كنتة وطيدة بالمدن ، فرغم كون الأغلبية الساحقة من الكنتاويين كانوا أهل بادية ، يحلون و يرتحلون و يظعنون لمواشيهم ، إمتلكوا قطعانا مهمة من الأغنام و الإبل و الأبقار و تكيفوا مع حياة البداوة و التي تلزم صاحبها بالتنقل الدائم بحثا عن المرعى لماشيته ، و الأمن لأهله و عشيرته ، إلا أن هذا لم يمنع هذه القبيلة من المساهمة في الحياة الحضرية بالبلاد البيضانية ، من خلال إستقرار أعداد مهمة من الكنتاويين بالمدن ، بل الأكثر من ذلك تشييد مدن جديدة ، و تنميتها حتى استقطبت أعدادا مهمة من البيضان ، و من أهم المدن التي شيدها الكنتيون ، نجد المدن التالية :
قصر البركة : حاضرة تقع قرب الواد الأبيض القادم من تيجكجة ، و قد مكن هذا الموقع قصر البركة من مراقبة القوافل القادمة من المغرب الأقصى و المتوجهة إلى ولاتة و تلك القادمة من أدرار نحو تيشيت ، يقول محمد بن المختار بن بده في كتابه سطور في تاريخ حاضرة قصر البركة ' قامت مجموعة أولاد سيدي حيب الله ببناء أول حاضرة في الشمال الغربي من تكانت على رأس القرن الحادي عشر الهجري و قد استوطنته جماعات من أبناء سيدي محمد الصغير ( كنتة الغرب ) و دليل ذلك وجود أضرحة بعضهم بالقصر إلى اليوم ... و قد روعي في إختيار هذا الموقع التوسط بين شنقيط شمالا و بلاد النهر الصنهاجي في الجنوب و تمبكتو شرقا و باغنة جنوبا' لقد ظلت حاضرة قصر البركة إلى حدود دخول الفرنسيين تقطنها بطون من كنتة ( أولاد سيدي حبيب الله ، أهل آدبه ) و مجموعة من قبائل إدوبسات ' وجمع من قبائل بني حسان و هم أولاد ملوك البيض و الخضر و الزاقورة و البريكات و أولاد كافي و الكواطيط و جماعة من تكاط' ، تعرض القصر للهدم سنة 1822 م من قبل أهل سيدي محمود في الحرب الناشبة بينهم و بين كنتة ، و تماشيا مع الهدف الأساسي الذي شيدت من أجله يضيف صاحب ديوان الصحراء 'و أصبحت حاضرة قصر البركة منذ ذلك الحين تزخر بالعديد من الفقهاء و العلماء و ظلت تدرس فيها جميع العلوم و كان طلاب العلم يفدون إليها من كل فج و معاشهم فيها جيد و منظم' .
الرشيد : قصر عامر أسسه بطن من كنتة يعرف بأهل سيدي الوافي في القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي أي في حدود سنة 1723 ، إذ بناها سيدي أحمد بن سيدي الأمين بن الطالب سيدي أحمد بن سيد عمر بن محم بن سيد الوافي بن سيد بوبكر بن الشيخ سيدي محمد الصغير هدم على يد أهل سيدي محمود في حربهم على كنتة ، و قد ظل الرشيد علما لكنتة و خصوصا أولاد سيدي الوافي ، و لا سيما في حربهم على أهل سيدي محمود ثم صراعاتهم مع إدوعيش و غيرهم .
زاوية كنتة : بعد وفاة الشيخ الكبير و المجدد العظيم سيد أعمر الشيخ إبن الشيخ سيدي أحمد البكاي سنة ، أسس أحد أحفاده و هو الشيخ سيدي أحمد بن سيدي محمد الرقاد بن سيدي أحمد الفيرم بن سيدي أعمر الشيخ المتوفى سنة 1562 م زاوية كنتة بإقليم توات ، و التي لا زالت تحمل إسمها إلى اليوم بدولة الجزائر تحت إسم ( بلدية زاوية كنتة) ، لعبت هذه الزاوية دورا مهما في تسيير المتصوفة و التجار على حد سواء إلى العمق الإفريقي ، و كذلك لنشر الورد القادري و إعادة فتح إفريقيا ، فقد شكلت هذه الزاوية قاعدة خلفية للكنتاويين ، وصفها المستعمر كابولاني بأنها من أغنى الزوايا التواتية ، و أكبر مقاطعاتها من حيث السكان .
قصر المبروك : تأسس بالأزواد في 1133 هــ و حسب رواية سيدي محمد الكنتي في الغلاوية أنه ' تأسس بعد عامين من زمان أكفاف' و هو يوافق تاريخ فك الإرتباط بين كنتة الشرق و الغرب بعد الحوادث التي وقعت بين الفريقين إذ يعود نفس الحدث ليظهر مجددا مع سيدي محمد الكنتي في الطرائف لكن هذه المرة بمسمى آخر و هو 'هاوية كناتة' إذ يقول ' أسس سيدي الحاج أبو بكر بن محمد بن أعمر بن الوافي قرية المبروك بأزواد' ، هذه القرية التي سيرى فيها سيدي المختار الكنتي النور و سيعيش في رحابها و يتربى في أجوائها ، قرية كنتية بكثيب أوغال شمالي الأزواد ، هذا القصر الذي يقع على مسافة 275 كلمتر شمال بنبا و قد تاسس في بداية القرن 18 [ 1720/1721 ] من طرف كنتة أهل الوافي الذين الذين وفدوا ازواد بعد كوارث كانت القبيلة ضحية لها ، و بنيت المبروك بجوار بئر يعرف بنفس الاسم و اصبحت مع مرور الوقت محطة مهمة على طرق القوافل الكبرى الشمالية و اقام بها التجار و ازدهرت التجارة لتعذر قيام الزراعة
لا غرو أن الحواضر الكنتية السالفة الذكر لم تكن الوحيدة التي يضع السادة الكنتيون الأوائل حجر زاويتها ، فهناك العديد من القصور و القصبات و الزوايا و الربط و الواحات المنتشرة في طول الصحراء و عرضها كان للكنتاويين سبق السهم فيها ، نورد بعضا منها و قد جاءت مفصلة في مقدمة المؤلف الفريد من نوعه [ ديوان الصحراء ] الذي بدل صاحبه مجهودا جبارا لجمع كل الشذرات الدالة على دور الكنتيين الحضاري بالصحراء الكبرى :
- واحة تالمست : في الشمال الشرقي من تكانت ، كان أول من غرس نخلها الولي الصالح أعمر بن سيدي أحمد النويكط سنة 1008 هــ.
- واحة تالغزة : تقع إلى الشمال من قصر البركة ، قامت على يد الطالب يوسف بن سيدي أحمد الفقيه بن الحاج بوبكر بن الولي سيدي أحمد البكاي .
- واحة تيجكجة الأولى : اختطها ثلاثة مشائخ من كنتة الغرب قبل أن ينتقل إليها إدو علي من شنقيط و يعمروها .
هذا ناهيك عن عدد مهم من الزوايا و القصور في منطقة توات بأدرار الجزائر ، و قد إستفادت هذه الزوايا و القصور من مكانة مميزة و إحترام و تقدير كبيرين لدى العامة و الخاصة نظرا للدور النبيل الذي تلعبه هذه المؤسسات ، إذ تلقت دعما و تشجيعا متواصلا من البلاط العلوي و يورد الباحث يحيى ولد سيد أحمد إشارة فريدة من نوعها نقلا عن وثائق فرنسية بحوزته فيقول 'استفادت الزوايا الكنتية عموما من عناية شرفاء تافيلالت الحاكمين في المغرب الأقصى ... زوايا سيدي عبد القادر بن عمر و الشيخ سيدي المختار بالجديد و زاوية سيدي محمد بن أحمد و زاوية كنتة و زاوية بونعامة و زاوية الهمالي بأقبلي و زاوية سيدي باصباح بدلدول استفادت جميعها من الهدايا السلطانية و ذلك بتاريخ آخر جمادى الاولى 1244 هــ دجنبر 1828 م ' ، الشيء الذي يؤكد متانة العلاقات بين البلاط العلوي و الزاوية الكنتية . لقد أسس الكنتاويون مدنهم على طول الطرق التجارية و المحاور المهمة ، الشيء الذي يزكي دورهم في حماية الطرق التجارية ، على أن الأقطاب الكنتيين و منذ القرن العاشر الهجري و هم يعمرون هذه الربوع علما و صلاحا إذ ساعد إستخراج الملح من تاودني و تغازة على إزدهار الحركة التجارية بين المنطقة و واحات توات ، بل الأكثر من ذلك تسيير قوافل خاصة بهم إذ سيطرت العائلات الكنتية مع مرور الوقت على تجارة الملح و قوافله التي يطلق عليها محليا ( أزلاي ) ، على الخط الرابط ما بين تنبكتو و تاودني ببلاد الأزواد، رغم صعوبة هذا المسلك الذي وصفه حسن الوزان أنه ' أرض فلاة لا يقطعها التجار إلا بصعوبة بالغة' ، ، تجارة الملح هذه و التي سيطر عليها الكنتاويون سيطرة تامة جعلت السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله يفاوض سيدي المختار الكنتي على إستعادة السيطرة على عائداتها ، الشيء الذي يؤكد أن كنتة في إنتشارها في هذه الربوع لم تأل جهدا في تنظيم هذا المرفق الإقتصادي المهم ، و العمل على حمايته ، الشيء الذي يوضحه سيدي محمد الكنتي في مراسلة نادرة توضح أهمية تجارة الملح داخل المنظومة الإقتصادية للمنطقة بصفة عامة ، و بالنسبة لكنتة بشكل خاص ، و قد إعتمدت الزاوية الكنتية التي أسسها سيدي المختار الكنتي في تسييرها و تدبيرها على عائدات مراقبة تجارة الملح كما توضح الوثيقة السالفة الذكر .
لم يقتصر دور الأسر و العائلات الكنتاوية على تأسيس المدن و الربط و الزوايا ذات الأهداف الدينية و الإقتصادية ، بل أسهم الكنتاويون بحظ وافر في تعمير المدن البيضانية و السودانية و الطارقية على حد سواء ، بما توفر لديهم من ميكانيزمات روحية و أقتصادية ، إذ استقرت بعض العائلات الكنتية بالمدن التجارية الكبرى ، و يأتي على رأسها :
- تنبكتو : هذه المدينة الاسطورية التي استحوذت على إهتمام الباحثين ، و كانت بحق مهوى أفئدة العلماء و الشرفاء و التجار ، كما كانت محط أطماع القوى المحلية و الإقليمية المتنفذة ، علاقة الكنتاويين بتنبكتو لم تكن دائما على ما يرام ، و هذا ما توضحه قصة الشيخ سيدي المختار الكنتي الذي كان يتوصت دائما لإنقاذ المدينة من غزوات الطوارق ، و قد تسد شيوخ كنتة على تنبكتو و أصبحوا أهل الحل و العقد بها بعد إنهيار سلطة الرماة ، و خصوصا على يد الشيخ سيدي أحمد البكاي الصغير ( 1865 م ) ، و الذي جمعته علاقة وطيدة بأمراء الماسينا كما تدل على ذلك مراسلاته المتعددة مع أمراء حمد الله ، الشيء الذي أهلهم ليبسطوا هيمنتهم الفعلية على المدينة إلى حدود الحملة العمرية التجانية التي أطاحت بدولة الماسينا سنة 1865 م ، و قد أسس الكنتيون زاوية بتنبكتو على يد الشيخ علواتة بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي المختار الكنتي و المتوفي في حروب الزاوية الكنتية ضد العمريين الفوتيين .
- ولاتة : المدينة العتيقة الضاربة في القدم ، و التي تمثل للكنتاويين المنشأ و مهوى الأفئدة، فبها قبر الولي الصالح سيدي أحمد البكاي منشئ شجرة كنتة و باعث عزها و الواقعة بقلب الحوض الموريتاني ، إستوطنتها ذرية هذا الولي قبل أن تتفرق في الأقطار ، و تستوطن كافة الأمصار ، و تدين مدينة ولاتة لهذا الولي بالشيء الكثير إذ دشن بها ثورة إصلاحية في مطلع القرن 16 و هو ما فصله سيدي المختار الكنتي في المنة ، و سيدي محمد في الطرائف و الغلاوية .
مستند لاميرال الشيخ فى مجمع الشيخ سيد المختار الكنتى الثقافى الإسلامى .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تضمين الرسالة أدناه

وصلى الله على الهادى الأمين