بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 26 أبريل 2017

مقالات للدكتور/ أبايه محمد محمود، عضوهيئة علماء المسلمين.



"ثم جعل من بعد قوة ضعفا"
لقد اقتضت حكمة الخالق – سبحانه – أن ينتقل الإنسان من طور إلى طور، ومن حال إلى حال . من طور الطفولة ، إلى طور الشباب ، إلى طور الكهولة ، إلى طور الشيخوخة والضعف والهرم .
مصداق ذلك قوله – تعالى -: [اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ] {الرُّوم:54}
هكذا الإنسان يولد ضعيفا ، ثم يورق عوده ، ويينع شبابه ، ويستوي خلقه ، ويبلغ أشده ، ثم يعود إلى سيرته الأولى : وهن في العظم ، وضعف في الرؤية ، وصمم في السمع ، وخرف في الذاكرة ، وتقلب في المزاج: (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) (مريم:4) .
إذا تم شيء بدا نقصه ** توقع زوالا إذا قيل تم
ولأن الله تعالى قد كرم هذا الإنسان وفضله تفضيلا ، كما في قوله جل من قائل { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } ( سورة الإسراء ، الآية 70 ) . فإن عملية التكريم والتفضيل الرباني لبني آدم متواصلة من الصغر مرورا بالشباب حتى الكبر ، ولا يتوقف هذا التكريم عند سن معينة ، بل إن المرء أحوج ما يكون إليها في هذه المرحلة – مرحلة الشيخوخة والهرم- حينما يستغنى عنه ، ولا يبقى أحد بحاجة إليه ، بل هو المحتاج إلى عناية غيره ، ورعاية سواه ، فجاءت آيات الكتاب وآحاديث النبي الكريم ناطقة بالأمر بالإحسان إليه وتوقيره وتكريمه.
ولعل هذا هو السبب في قلة وجود دور للمسنين في بلاد المسلمين، لأن كل مسلم يحرص على رعاية المسن بنفسه ويباشر إكرامه بذاته ؛ طاعة لله أولا وإجلالا له ، قبل أن تكون خدمة مجردة يسديها إلى المسن ففي الحديث :(إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم…) رواه أبو داوود
يحكى أن أحد الدعاة كان في زيارة لإحدى الدول الأوروبية وبينما هو جالس في محطة القطار شاهد امرأة عجوزا شارفت على السبعين من العمر تمسك تفاحة بيدها وتحاول أكلها وهي لا تقوى .
جلس الرجل بجانبها ، وطلب منها أن تناوله التفاحة فأخذها وقطعها وأعطاها للعجوز وذلك ليسهل عليها أكلها وتناولها،
فإذا بالعجوز تنفجر باكية فسألها لماذا تبكين ؟؟
عملية التكريم والتفضيل الرباني لبني آدم متواصلة من الصغر مرورا بالشباب حتى الكبر ، ولا يتوقف هذا التكريم عند سن معينة.
قالت: منذ عشر سنوات لم يكلمني أحد ولم يزرني أولادي فلماذا فعلت معي ما فعلت ؟؟؟
قال: إنه الدين الذي أتبعه يأمرني بذلك ويأمرني بطاعة الوالدين وبرهما
وفي بلدي تعيش أمي معي في منزلي وهي بمثل عمرك وتعيش كالملكة !!
فلا نخرج إلا بإذنها ولا نأكل قبل أن تأكل ونعمل على خدمتها أنا وأبنائي وزوجتي وهذا ما أمرنا به ديننا .
فسألته وما دينك ؟؟ قال: الإسلام فطلبت منه أن يعرفها عليه ويحدثها عنه وكان ذلك سبباً في إسلامها .
إي والله لا غرابة في ذلك ، فالإسلام يرحم الكبير ويأمر بتوقيره وإكرامه ، وبسطا لهذا الإجمال نقول :
إن المسن الذي آل من بعده قوته إلى ضعف لا يخلوا من واحدة من ثلاث:
إما أن يكون أبا أو أما، أو يكون صديقا لهما، أو يكون غير ذلك.
فإن كان أبا أو أما ، فإن الله وصى به وأمر بالإحسان إليه وجعل حقه بعد حقه: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا] {الإسراء:23:24} ]
فتضمنت الآية أمرا بصور من الإحسان والتقدير والإكرام للأبوين ، ولا سيما المسنين وهذا بيان ما تضمنته .
1-  الأمر بالإحسان إليهما مطلقا (وبالوالدين إحسانا) فلا إيذاء بقول ولا إساءة بفعل.
2-  جعلهما معه أي في بيته ومسكنه وديعة عنده وأمانة لديه ، تجب رعايتهما: (فإما يبلغن عندك الكبر أحدهما أوكلاهما) فهما عنده ليسا في دار العجزة ولا مأوى المسنين ، فإن لم يحفظ الأمانة رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه كما في حديث أبى هريرة في صحيح مسلم عن النبى – صلى الله عليه وسلم- قال :« رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف ». قيل من يا رسول الله قال « من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة ». .
3-  نهى عن التأفف منهما ، والتبرم من أوامرهما ، والضجر من حالهما (فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما).
4-  وأمر أن يكون قوله لهما كريما لينا سهلا ، فيناديهما بما يشعرهما بنعمتهما عليه : كقوله يا أبتاه ، ويا أماه ، وأنه إنما يرد إليهما بعض جمليهما ويؤدي إليهما شيئا من إحسانهما عليه، (وقل لهما قولا كريما).
5-  وأمر بالتذلل لهما والتواضع عندهما ، رأفة ورحمة بهما ، وشفقة عليهما:(واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ).
6-  وهذا كله لا منة فيه بل يدعوا لهما بالرحمة والمغفرة كما أحسنا إليه ورحماه في صغره فلطالما سهرا لينام ، وظمئا ليروى ، وجاعا ليشبع ، وتعبا ليرتاح :(وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا).
وحتى لو اختلف الدين واعتقد الأبوان غير ما يعتقده الابن فإن ذلك لا يسقط حقهما في البر والإحسان فعن سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه قال : نزلت في أربع آيات من كتاب الله تعالى كانت أمي حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتى أفارق محمدا صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز و جل: { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } [لقمان: 15] “…إلخ.
هذا هو النوع الأول من المسنين وهما الأبوان وأما النوع الثاني فهو صديق الأبوين وذو ودهما .
وهذا النوع أولاه الإسلام عناية أيضا ، فجعل من بر الأبوين بل من أبر برهما صلته والإحسان إليه لأجلهما ولذا نجد عبد الله بن عمر يسلم على شيخ أعرابي وينزل له عن دابته ويعطيه عمامة كانت على رأسه قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب وإنهم يرضون باليسير. فقال عبد الله :إن والد هذا كان ودا لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول :« إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه » .رواه مسلم
فإذا أكرم كل مسلم أبويه وأكرم لأجلهما ذوي ودهما فمن يبقى بعد ذلك من المسنين لم يجد هذه العناية وهذا الإكبار والإجلال لن يبقى إلا القليل .
وهو الصنف الثالث من المسنين وهؤلاء يدخلون تحت الدائرة الشاملة التي أمر فيها الإسلام بإجلال الكبير وتوقيره ـ بل في الحديث الذي مر ذكره أن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم . و في سنن أبي داود – عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا فَلَيْسَ مِنَّا ” .
ويشملهم كذلك الأمر بالإحسان إلى الجار قال الله تعالى: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء:36].
وعن عبد الله بن عمرو أنه كان يوصي غلامه ، ويؤكد عليه أن لا ينسى جاره اليهودي من ذبيحة ذبحها، فلما سأله الغلام عن سر اهتمامه بهذا الأمر، قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه. رواه أبو داود.
قال القرطبي في تفسيره 5/171: والإحسان إلى الجار قد يكون بمعنى المواساة، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة.
كما يشمل هذا النوع من المسنين حق أخوة الدين ورحمه إن لم تكن ثمت أخوة في النسب .
إن يُكْدِ مُطَّرَفُ الإخاءِ فإِنَّنَا … نَغْدُو وَنَسْرِي في إِخَاءٍ تَالِدِ
أو يَخْتَلِفْ مَاءُ الوِصَال فَمَاؤُنا … عَذْبٌ تَحدَّرَ مِنْ غَمَامٍ وَاحِدِ
أو يَفْتَرِقْ نَسَبٌ يٌؤَلِّفْ بيْنَنَا … دين أَقَمْنَاهُ مَقَامَ الوَالِدِ
و في صحيح مسلم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى” .
المسنون لا يرغبون أن يكونوا في عزلة عن الناس في دور معينة مهما كانت خدماتها ؛ لأن ذلك يشعرهم بالإهانة والنبذ ، وأنهم صاروا في سلة المهملات 
هكذا عالج الإسلام هذه القضية وأولاها ما ينبغي من العناية والاهتمام ؛ لأن هذه الطبقة من الناس – أعني طبقة المسنين – في حاجة إلي المساعدة والرعاية.
وقد سلكت بعض الدول طرقا شتى لرعاية هذه الفئة من الناس فبعضهم يحيلونه إلي التقاعد في سن مبكرة ، وبعضهم يحيلونه إلي دار المسنين لرعايته وليقضي ما فضل من عمره هناك ، فالحاجة إليه قد انتهت وليس له من يرعاه .
وخدمات دور الرعاية وإن كانت حسنة في ذاتها تغطى بعضا من عوار تلك المدنية الزائفة في هذا الجانب على الأقل ، لكنه مهما تكاملت الخدمات اللازمة والرعاية الملائمة فيها فإنه يبقى الجانب الإنساني والنفسي الكامن في الوجدان لا مكان له فيها ، ولا يمكن أن تكون بديلا عن الأهل وحنان الأسرة المتأصل في النفس والنابع من الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، ذلك لأن احتياجات الإنسان المسن تختلف، وفي دور الرعاية تحطيم لهذه الرغبات ، والمسنون لا يرغبون أن يكونوا في عزلة عن الناس في دور معينة مهما كانت خدماتها ؛ لأن ذلك يشعرهم بالإهانة والنبذ ، وأنهم صاروا في سلة المهملات ، بل يريدون أن يكونوا في مجتمع واحد متماسك لا ينفصلون عنه يوقرهم ويحترمهم كما هم في ميزان الإسلام.
بقلم الدكتور/ أبايه محمد محمود، عضو هيئة علماء المسلمين.
27تاريخ النشر/ يوليو, 2014

 ..........................................................
{أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم اللّه برحمة}

في مواقف كثيرة قد يزدري المرء من يراه، ويظن نفسه خيرا منه عند الله منزلة، وأعظم مكانة لكن لو نظر في مواطن الخير، وميادين الطاعة لوجد كثيرا من أولئك قد سبقوه.
انظر إلى الصف الأول.
انظر إلى من يشهد الفجر ويداوم عليها.
انظر إلى من يذرف دموعه على خديه، عند سماع القرآن، وحضور المواعظ؛ أسفا وحسرة على مافرط في جنب الله.
انظر إلى من يلبون نداءات الاستغاثة، حين تنكب الأمة في مكان ما فتحاج إلى مد يد العون والمساعدة.
وتجد أكثرهم من أولئك الذين كنت تزدريهم بعينك ، وتمقتهم بقلبك ، وتسلقهم بلسانك ؛ لزلة ارتكبوها ، وصغيرة ألموا بها.
وربما أعلنت جهارا ، أو أسررت إسرارا: أنهم لن ينالهم الله برحمة ، مثلما قال الواعظ للذي نصحه مرارا فلم يقبل النصح ورد على التعنيف قائلا إليك عني لست علي بوكيل ، فقال الواعظ: والله لا يغفر الله لفلان. وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك. أو كما قال.
وقد ترجم مسلم في صحيحه لهذا الحديث فقال: باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى.
وأخرج غير واحد من أئمة الحديث ، منهم الإمام البخاري – رحمه الله – في صحيحه، من رواية أبي هريرة – رضي الله عنه- قال : (( أُتي النبي – صلى الله عليه وسلم- برجل قد شرب ، قال : اضربوه . قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه. فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله . فقال صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هكذا ، لا تعينوا عليه الشيطان ))، وفي لفظ آخر من حديث أبي هريرة : ((… قال رجل : ماله أخزاه الله ! فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-:” لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم)) وفي رواية: (فقال رجل من القوم : اللهم العنه ، ما أكثر ما يؤتى به ! فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- : (( لا تلعنوه ، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله)).
لما أنظر في الصفوف الأول للصلاة ، أو أشاهد من يحرصون على تشييع الجنائز، وحضور مواسم الخير ، والمبادرة إلى المعروف ، فأجد أكثرهم من أولئك الذين قد لا تبدوا عليهم سيما الصلاح والاستقامة
هكذا يعلنها الحبيب في موقف كهذا ولرجل كهذا معلما ومؤدبا بأبي هو وأمي فزلة المؤمن لا تجعله كافرا ، ولا تؤيسه من رحمة الله ، ولئن كرهنا زلتنا فلا نكره ذاته بل نرحمه لبلواه ونحمد الله على العافية دون أن نزكي أنفسنا.
أخرج الإمام مالك في موطئه على لسان عيسى بن مريم أنه قال لمن حوله: لا تنظروا في أعمال الناس كأنكم أرباب بل انظروا في أعمالكم كأنكم عبيد فإنما الناس رجلان مبتلى ومعافى ، فاحمدوا الله على العافية ، وارحموا أهل البلاء.
ويسجل القرآن موقفا عجيبا يوم القيامة حينما يشاهد بعض أهل الموقف أشخاصا كانوا يظنونهم أقرب إلى النار والخذلان ، وأنهم ليسوا أهلا للرحمة والإحسان ، فيدخلهم الله الجنة ، ويقول مبكتا لمن زكى نفسه وازدرى غيره: (أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ۚ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ). وقرئ: أُدخِلوا بالبناء للمفعول.
وكأن الآية تخاطب بعضنا حين يزكي نفسه ويزدري غيره ويظن أنه أقرب إلى الله تعالى منه ، بل يكاد يقسم: أن الله لن ينال ذلك العاصي برحمة ويخشى على أولئك حينئذ من هذه الآية: (أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ۚ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ).
ولو تأملنا كتاب الله عز وجل لذهب ما في نفوس أكثرنا من ذلك ولرحم بعضنا بعضا ولم يزدره فربنا يقول: { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن اللّه}  (فاطر : 32) .
أي : ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم ، المصدق لما بين يديه من الكتب ، الذين اصطفينا من عبادنا ، ثلاثة أنواع : (فمنهم ظالم لنفسه) وهو : المفرط في فعل بعض الواجبات ، المرتكب لبعض المحرمات .
( ومنهم مقتصد) وهو: المؤدي للواجبات ، التارك للمحرمات ، وقد يترك بعض المستحبات ، ويفعل بعض المكروهات . ( ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ) وهو: الفاعل للواجبات والمستحبات ، التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات. عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية ” هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة. ومعنى ذلك إن صح كما قال ابن كثير: أنهم من هذه الأمة ، وأنهم من أهل الجنة ، وإن كان بينهم فرق في المنازل فيها الجنة.
والحقيقة أنني دائما أتأمل هذه الآية: (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) كلما أنظر في الصفوف الأول للصلاة، أو أشاهد من يحرصون على تشييع الجنائز، وحضور مواسم الخير، والمبادرة إلى المعروف، فأجد أكثرهم من أولئك الذين قد لا تبدوا عليهم سيما الصلاح والاستقامة.
فأدعوكم إلى تأملها وتدبرها لعلها تكسر بعض الأنا والغرور الذي يلبسه الشيطان للمرء حين يقبل على الطاعة ليهدم صالح عمله بالعجب ورب طاعة أورثت عجبا واستكبارا، ورب معصية أورثت تواضعا وانكسارا.
بقلم الدكتور/ أبايه محمد محمود، عضو هيئة علماء المسلمين.
تاريخ النشر/ 11 ديسمبر, 2014
 ...........................................................

"إن تنصروا الله ينصركم "

لم يخلف الله وعده ولن يخلفه وإنما أوتينا من قبل أنفسنا وحل بنا ما حل من فرقة وتشرذم وهوان على الناس بما كسبت أيدينا ” أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير”
هزم الصحابة في أحد حينما تخلى الرماة عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فحدث لهم ما حدث.( حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ) آل عمران 152.
“ولم يمنع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم سُنَّة الله الإيمانية في كونه ألا تقع، ولو ظلوا مُنتصرين على الرغم من أنهم خالفوا الرسول صلى الله عليه وسلم   لهان أمر رسول الله في نظرهم؛ لذلك أراد الحق أن يُوقع بهم ألم الهزيمة المؤقتة من أجل أن يتأدبوا، وحتى يَعضُّوا على أمر سيدهم وسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بالنّواجذ.” كما يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله.
(إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) ولو كنتم قلة في العدد وضعافا في العدد كما نصركم يوم بدر وأنتم أذلة لما نصرتموه وصدقتموه: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾. آل عمران: 123. ونصركم على الأحزاب (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا…) الأحزاب 10-11
“إنها صورة الهول الذي روع المدينة , والكرب الذي شملها , والذي لم ينج منه أحد من أهلها . وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة من كل جانب . من أعلاها ومن أسفلها . فلم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب ; وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب , وظنها بالله , وسلوكها في الشدة , وتصوراتها للقيم والأسباب والنتائج . ومن ثم كان الابتلاء كاملا والامتحان دقيقا . والتمييز بين المؤمنين والمنافقين حاسما لا تردد فيه .
وننظر اليوم فنرى الموقف بكل سماته , وكل انفعالاته , وكل خلجاته , وكل حركاته , ماثلا أمامنا” هكذا يقول سيد قطب رحمه الله وقد صدق. وما حال غزة عنا ببعيد وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين.
المفتاح بأيدينا
     {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ. .} [الحج: 40] .
ربنا سبحانه يجعل المفتاح بأيدينا ، والكرة في مرمانا على حد تعبير أهل العصر. إن نصرنا الله نصرنا مهما كانت قوة عدونا ، وكثرته ، وشدة بأسه ، وتطور أسلحته ، ومن كان الله معه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ولا يخاف دركا ولا يخشى. كما قال موسى لما قال له قومه وقد نظروا إلى جند فرعون وقد غشيهم (فَلَمّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىَ إِنّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاّ إِنّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ) الشعراء 25-26
وقالها الحبيب صلوات الله وسلامه عليه لأبي بكر وهما في الغار لما قال أبو بكر لو نظر أحدهم تحت عقبه لرآنا فقال له الحبيب:( ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
قد يقول قائل: إن المسألة تحتاج إعدادا ، وعدة ، وعددا. وهذا كلام حق.
ألا كل أمة ضائع حقها سدى ***إذا لم يؤيد حقها المدفع الضخم
علينا أن نعد العدة حسب استطاعتنا فحسب ونترك الباقي لله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل} [الأنفال: 60]
نجد موسى اتخذ الأسباب فأسرى بمن آمن معه ليلا هذا سبب وإعداد لكن هل يكفي وحده كلا ؛ ولذلك فقد أدرك فرعون بجنده موسى وأصحابه حتى خاف أصحاب موسى من بطش فرعون وقالوا : إنا لمدركون فلم يقل لهم موسى لا تخافوا لن يدركونا لأنا سرينا تحت جنح الظلام خفية بل قال: (كلا إن معي ربي سيهدين ) وقد كان كذلك فهيأ الله لموسى وقومه طريقا في البحر يبسا وأغرق فرعون وجنده.
وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة اتخذ الأسباب فسار تحت جنح الظلام واختبأ هو وصاحبه في الغار لكن لما جاء ت قريش ومرت بباب الغار قال أبو وبكر لو نظر أحدهم تحت عقبه لرآنا فلم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم كلا إن الغار مظلم سيسترنا بل قال له (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)
فلنعد العدة ولنتخذ الأسباب ولا نتكل على ذلك (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ)الأنفال 17.
ولما قلنا في حنين لن نهزم اليوم من قلة هزمنا ولم تغن عنا كثرتنا شيئا
﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)التوبة (25)
إذن فالمسألة مبسوطة بالتجربة الواقعية، ليس بالكلام النظري وليس بالآيات فقط، بل بالواقع. إنها دروس وعبر نقرأها في كتاب ربنا ونحن نرى فئة قليلة من المسلمين صابرة صامدة تدك قلاع العدو وحصونه وتجوس خلال دياره بطائرة الأبابيل .
سلام عليك “أبا جندل” **سلام على أمة الجندلهْ
سلام على كل مستبسل **وحيدا يقاوم لا جند له
وأف على من إذا ما بدا **له ظله خف للهرولهْ
إن ما نراه في غزة رغم ألمه نستبشر به خيرا ونراه بارقة أمل قد تذكي فينا جذوة التفاؤل وتنفض عنا غبار اليأس.
{ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } (آل عمران:139) إذن فلنؤمن حقا ولننصر الله صدقا بتطبيق أوامره: والخضوع له في منهج افعل ولا تفعل لينصرنا فرادى وجماعات وأمما.
بقلم الدكتور/ أبايه محمد محمود، عضو هيئة علماء المسلمين.
تاريخ النشر/ 17 يوليو, 2014

 ........................................................

” أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها “

القرآن الكريم آية في الإعجاز البياني في أسلوبه ، وإيجازه ، وأمثاله ، وجمله ، وفواصله ، وفي ابتدائه ، وفي خلوصه ، وفي انتهائه. كما قال الإمام السيوطي – رحمه الله – في خاتمة ألفيته في البلاغة:
وسور القرآن في ابتدائها = وفي خلوصها وفي انتهائها
واردة أكمل وجه وأدل = وكيف لا وهو كلام الله جل
ومن لها أذعن بالتأمل = بان له كل خفي وجلي
يقول الحق سبحانه: (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ) أين الجواب ؟ وما تقديره ؟
الجواب محذوف وتقديره إما :
أنه لو كان هنالك قرآن تسير به الجبال وتقطع به المسافات ويكلم به الأموات لكان هذا القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تكفرون به ؛ ذلك أن بعض من مشركي مكة أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فقالوا له : إن سرك أن نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن ؛ فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حين سخرت له الجبال تسير معه ، وسخر لنا الريح فنركبها إلى الشام نقضي عليها حوائجنا ، ثم نرجع من يومنا ; كما سخرت لسليمان ؛ فلست بأهون على ربك منه ، وأحيي لنا قصيا جدك ، أو من شئت من أمواتنا فإن عيسى كان يحيي الموتى ؛ ولست بأهون على الله منه : (( قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ )) [الأنعام: 124]
فأنزل الله تعالى : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال… الآية ; أي لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعله قرآنكم ؛ لعظمته وقوة تأثيره -وكيف لا- وهو لو أنزل على جبل لتصدع من خشية الله كما قال الحق سبحانه في سورة الحشر الآية 21 (لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) والذين أحسوا شيئاً من مس القرآن في كيانهم يتذوقون هذه الحقيقة تذوقاً لا يعبر عنه إلا هذا النص القرآني المشع كما يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال . وقد قال أمير الشعراء في ميميته:
جاء   النبيون   بالآيات     فانصرمت   ***   وجئتنا     بكتاب     غير     منصرم
آياته   كلما   طال     المدى     جدد   ***   يزينهن     جلال     العتق     والقدم
أخوك   عيسى   دعا   ميتا   فقام   له   ***   وأنت   أحييت   أجيالا   من   العدم
﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ﴾[الأنعام: 122].
ورب حي رخام الأرض مسكنه ** ورب ميت على أقدامه انتصبا
لكن قلوبنا معاشر البشر قاسية بل قد تقسوا أحيانا حتى تكون أشد من الحجارة ولا يغرنك لين ملمسها؛ فقد قال تعالى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ البقرة : 74 ].
أما الاحتمال الثاني لجواب “لو” فهو: ما ذكره بعض المفسرين من أن تقديره لو سيرت لهم الجبال بالقرآن وطويت لهم به الأرض طيا وكلم به الموتى لما آمنوا ولظلوا على كفرهم وكأن هذا الجواب المضمر هنا هو ما أظهر في قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ }  [ الأنعام : 111 ].
أي “لو جاءتهم الآيات العظيمة، من تنزيل الملائكة إليهم يشهدون للرسول بالرسالة، وتكليم الموتى ، وبعثهم بعد موتهم، وحشر كل شيء إليهم حتى يكلمهم ( قُبُلا ) ومشاهدة، ومباشرة، بصدق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ما حصل منهم الإيمان، إذا لم يشأ الله إيمانهم، ولكن أكثرهم يجهلون.” هكذا يقول السعدي رحمه الله وهذه الآية كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يونس: 96، 97].
وكقوله: { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ الأنعام : 7 ] أي لو أنـزلت عليك، يا محمد صلى الله عليه وسلم الوحيَ ، في صحف يعاينونها ويمسُّونها بأيديهم، وينظرون إليها ويقرؤونها بحقيقة ما تدعوهم إليه، وصحَّةِ ما أتيتهم به من توحيدي وشرائعي لقالوا ” إنْ هذا إلا سحرٌ مبينٌ” ، أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر سحرتَ به أعيننا, ليست له حقيقة ولا صحة.
وكأن في هذا إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم ربما رغب في تلبية شيء من ذلك التحدي لإقامة الحجة عليهم بما طلبوا ليؤمنوا رحمة بهم وشفقة عليهم وكان حريصا على إيمانهم كما قال تعالى عنه: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً } [ الكهف:6 ] لأنه كان صلوات الله وسلامه عليه إذا لم يجيبوه يحزن حزناً شديداً، ويضيق صدره حتى يكاد يهلك، فسلَّاه الله وبيّن له أنه ليس عليه من عدم استجابتهم من شيء، وإنما عليه البلاغ فقط وما يتعللون به من الحجج ويطلبونه من الآيات ما هو إلا من عنادهم ومكرهم ولو جئت به ما آمنوا لك.
وهكذا نجد بعض الدعاة حينما يحاور ملحدا أو يدعوا فاسقا فيجادله بالباطل يعظم ذلك عنده ويتمنى لو يستطيع أن يأتيه بمعجزة ويتحداه بآية ليؤمن وينزجر ولو فعل لما أذعن له يقول الداعية الشيخ النابلسي: (الهِداية قرار داخِلي يتَّخِذُهُ الإنسان في أعْماق نفسِهِ، فإذا أراد أن يَهْتدِيَ إلى الله فأَصْغَر شيءٍ يهديه إلى الله ! أما إن أعْرَض عن الهِدايَة فلو عاشَ مع النبي عليه الصلاة والسلام كتِفًا بِكَتِف، ورآهُ رأْيَ العَيْن، وقرأ القرآن فمَشَتْ الجِبال، وقطع الأرض، وكلِّم به الموتى، فخَرْق القوانين لا يمكن أن يُقْنِعَ إنسانًا بالهُدى…)
وهكذا يقول الحق سبحانه: { وَلَوْ أَنَّ قُرْآَناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً } [ الرعد : 31 ]
وخلاصة القول في ذلك أن هذا المحذوف المقدر إما كون القرآن هو أعظم الكتب المنزلة من عند الله ولو قهرت نواميس الكون وقوانين الطبيعة بقرآن لكان هذا القرآن، وإما أنه لو فعل ذلك كما طلبتم فلن تؤمنوا عنادا وكبرا: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } [ النمل : 14 ]
إننا بحاجة إلى تدبر كتاب ربنا سبحانه والوقوف معه والخلوة به؛ ليزداد إيماننا، وتشرق نفوسنا، وترق قلوبنا بفهم ما فيه من مواعظ وأمثال ووعد ووعيده وقصص وغير ذلك مما تضمنه بأحسن بيان وأوضح برهان: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا }  [ النساء : 82 ].
بقلم الدكتور/ أبايه محمد محمود، عضو هيئة علماء المسلمين.
تاريخ النشر/  13 يوليو, 2014
 ......................................................

مقال الأسبوع

قال تعالى:﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾
في هذه الآية ربط بين طوائف من الناس بعضهم تربطه بالمنفق رابطة الرحم وبعضهم رابطة الإنسانية الكبرى في إطار العقيدة ، وكلهم يتضامنون في رباط التكافل الاجتماعي الوثيق بين بني الإنسان .. وهذا الترتيب في الآية تزيده بعض الأحاديث النبوية تحديدا ووضوحا كالذي جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل (( ابدأ بنفسك فتصدق عليها ،فإن فضل شيء فلأهلك ،فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا ))
ولقد علم الله أن الإنسان يحب ذاته فأمره أولا بكفايتها قبل أن يأمره بالإنفاق على من سواها ، فالصدقة لا تأتي إلا بعد الكفاية ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : (( خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول )) رواه البخاري كل هذا الترغيب والحث على الإنفاق كان لإيجاد الجو المناسب والمساعد للسمو بالنفس الإنسانية نحو المثل العليا ولتحقيق رسالة استخلاف الله للإنسان في الأرض وحمل الأمانة التي حمله إياها، ولا يكون ذلك إلا بتأمين متطلبات احتياجات الفقراء والمساكين وتحقيق مصالحهم وتنظيم العلاقات الاجتماعية على أسس العدل والتكافل والتعاون بدافع التقوى والتقرب إلى الله عز وجل والرغبة في مرضاته وثوابه والخشية من غضبه وعقابه ..
وقوله سبحانه {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فإن الله به عليم } شاملٌ لكل خير واقعٍ في أي مصرِفٍ كان ويدل له حديث البخاري: في كل كبد رطبة أجر. وفي حديث مسلم: ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة.
قال سيد قطب رحمه الله " الإنفاق ضرورة لقيام الجماعة المسلمة في وجه الصعاب والمشاق والحرب ... ثم هو ضرورة من ناحية أخرى: من ناحية التضامن والتكافل بين أفراد الجماعة وإزالة الفوارق الشعورية بحيث لا يحس أحد إلا أنه عضو في ذلك الجسد، لا يحتجز دونه شيئاً، ولا يحتجز عنه شيئاً. وهو أمر له قيمته الكبرى في قيام الجماعة شعورياً، إذا كان سد الحاجة له قيمته في قيامها عملياً."
وفي قوله تعالى في الآية " وما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ» .. إيحاء بأن ما ينفق  خير للمعطي وخير للآخذ وخير للجماعة وخير في ذاته فهو عمل طيب، وتقدمة طيبة، وشيء طيب. بل إن أكثر العلماء فسر قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.  {البقرة:195}. بأن ترك النفقة في سبيل الله إلقاء بالأيدي إلى التهلكة.
 وقد قال ابن عباس رضي الله عنه : {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: ليس التهلكة أن يقتل الرجل في سبيل الله، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله.
فما أحوجنا إلى تدبر هذه المعاني وامتثال هذه الأوامر والتخلق بهذه القيم والتعاون مع الجهات التي تسعى إلى غرسها والقيام .
 د. أباي محمد محمود

......................................................

بين يدي شهر رمضان

تهنئة : يقول الحبيب صلوات الله وسلامه عليه : " أَتَاكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ ".
ورغم أنف من أدركه رمضان فلم يغفر له . اللهم سلمنا لرمضان وسلم رمضان لنا وتسلمه منا متقبلا.
صيام رمضان هو الركن الثالث من أركان الاسلام، وهو عبادة شاملة تستوفي الناحية الروحية والجسدية والأخلاقية والمالية، ولئن كان يشترك في هذا مع بعض العبادات لكن الصيام ينفرد من بين سائر العبادات بأنه ترك ، وهي في الغالب أقوال وأفعال ..وبالمثال يتضح المقال :الشهادتان  تصديق ونطق وعمل، والصلاة نية وتكبير وقراءة وركوع وسجود وهكذا، والزكاة بذل ونفقة، والحج نية وإحرام وطواف وسعي ووقوف بعرفة وهكذا وكلها أفعال و أما الصوم فهو كف وإمساك. أي كبح لجماح النفس بمنعها عن المباح من الطعام والشراب والشهوة المباحة لأجل التربية والتزكية، وحبس لها عن الأقوال والأفعال المذمومة شرعا لترتقي بالصائم نحو الفضائل ومكارم الأخلاق.
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ***أتعبت نفسك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها*** فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
 وفي الصوم تربية للنفس وتعويد لها على الصبر وتحمل الشدائد، وفيه تنبيه للإحساس وإيقاظ للضمير ليشعر بالآخرين ومعاناتهم، من فقر وجوع وحاجة .
لعمري لقدما عضني الجوع عضة ... فآليت ألا أمنع الدهر جائعا
فالغاية من الصيام تحقيق التقوى وارتقاء الصائم بأخلاقه وسلوكه، وهذا ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»
 ومعنى ذلك أيها الصائمون أن الغاية من الصيام ليست هي الامتناع عن الطعام والشراب من الفجر إلى الليل، كما يتوهم البعض ويفعل فحسب . بل المقصود من الصيام هو التعامل الإيماني والسلوكي في الألفاظ والأفعال بين العبد وربه وبين العبد وسائر الخلق .
إذا لم يكن في السمع مني تصــامم * وفي بصري غــض، وفي منطقي صمت
فحظي إذن من صومي الجوع والظما *** وإن قلت: إني صمت يوماً فما صمت
و قول الزور وعمله المنهي عنه في الصيام هو كل قول مائل عن الحق ومنه الكذب والبهتان والسب والشتم والغيبة والنميمة وهلم جرا.
فالصائم هو الذي تصوم جوارحه مع بطنه وفرجه فيكف لسانه عن الفحش والزور والصخب والرفث والعمل بذلك ويكف سمعه عن سماع المحرمات وبصره عن النظر إلى مالا يرضي الله وما أكثره في الشاشات  ولا يرفث ولا يفسق ولا يصخب فهو ليس كغيره في الحديث "وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ"
يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم. ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء .
ويقول زين العابدين - رحمه الله -:"حق الصوم أن تعلم أنه حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وفرجك وبطنك، ليسترك من النار"
وقال مجاهد :خصلتان تفسدان الصيام الغيبة والكذب. وقد كان  أبو هريرة - رضي الله عنه - وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المسجد، وقالوا: نُطَهِّر صيامَنا".
إننا في مدرسة رمضان  نتربى على تحقيق غاية من أعظم غايات هذه الرسالة ألا وهي التحلي بمكارم الأخلاق، وقد قال صلى الله عليه وسلم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» كما نتربى على الشعور بالآخرين وفي الحديث «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه»
ونتربى في مدرسة الصيام أيضا على التكافل الاجتماعي حيث يحمل القوي الضعيف، والغني الفقير، كما نتربى على الحلم والتسامح والصبر وحب البذل.
مدرسة الصيام تربي على حب الطاعات والتعود على شهود الصلاة في الجماعات فيألف المرء طرق الخير ويعتاد أسباب البر ويذوق لذة الإيمان وحلاوة مناجاة الرحمان في القيام وتلاوة القرآن.
وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام.   وقال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان يفرّ من قراءة الحديث، ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
  وكان سفيان الثوري: إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن.
فكان السلف يكثرون من تلاوة القرآن في ليله ونهاره بل أثر عن بعضهم أنه ختم فيه ستين ختمة ختمة بالنهار وختمة بالليل.
وإذا كان عدد أحرف القرآن الكريم 340740 حرفا تقريبا فكم سيكون أجر الخاتم وما يحوزه من الحسنات  والحسنة بعشر أمثالها 340740× 10= 3407400
ثلاث ملايين وأربع مائة وسبعة آلاف وأربع مائة حسنة هذا لختمه واحدة فقط فكيف بمن ختم القرآن ستين ختمة أو ثلاثين ختمة أو عشر ختمات أو أربع إنه أجر عظيم وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وها قد علمنا الأجر العظيم فيا ترى كم سيكون نصيب القرآن من وقتك أيها الصائم ؟
سورة الفاتحة حين تقرؤها من كتاب الله فإن لك بها 1410 من الحسنات.
وآية الكرسي 1890 من الحسنات ومتوسط الصفحة الواحدة من المصحف لو قرأتها تحصل على أكثر من خمسة آلاف حسنة وإذا كان هذا في رمضان وفي شهر القرآن فالأجر أعظم والخير أكثر فسارعوا إلى مغفرة من ربكم  وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
بلغنا الله وإياكم رمضان ووفقنا لصيامه وقيامه وتقبله منه على الوجه الذي يرضيه .
د. أباي محمد محمود
........................................

المحظرة في بلاد شنقيط

 المحاظر في موريتانيا هي محاضن العلم وأماكن الدراسة الأصيلة التي زاوجت بين النمط التقليدي البدوي في هيئتها وأسلوبها والنمط العصري في مخرجاتها.
وهي بحق تمثل جزءا حيويا من هوية موريتانيا العربية والإسلامية والتاريخية والثقافية، وأساسا محوريا في أصالتها، وحضارتها، فهي التي ساهمت في نشر الإسلام وبث علومه وأثرت التاريخ الوطني والتراث العلمي لذلك الصقع الإسلامي النائي.
فمتى ظهرت المحاظر في بلاد شنقيط؟ وهل هي خصوصية تميزت بها تلك البلاد؟ وما هو المنهج التربوي الذي أسست عليه معارفها؟
ومن هنا أضع السؤال التالي:  هل  وردت كلمة محظرة في اللغة العربية ؟
للإجابة عن هذا السؤال، يلزمنا الرجوع إلى دلالة الكلمة (محاضر) ،فنقول إنها وردت بهذه الصيغة ( محاضر ) ،في اللغة العربية ، فيقال مثلا : على الماء حاضر وهؤلاء قوم حضار إذا حضروا المياه، ومحاضر؛ قال لبيد:
فالواديان فكلُّ مَغْنًى مِنْهُمُ  ** وعلى المياه محاضر وخيام
لكن الكلمة وردت بمعنى "المدرسة" كما في رحلة ابن جبير ( ت : 614 هـ ) إذ يقول عند استعراضه لمعالم مدينة القاهرة ومآثر صلاح الدين فيها : إنه أمر بعمارة محاضر ألزمها معلمين لكتاب الله عز وجل يعلمون أبناء الفقراء والأيتام خاصة وتجرى عليهم الجراية الكافية لهم.
    ويمكن تعريف المحظرة  بما ذكره محمد المصطفى الندوي في كتابه  دور المحاظر في موريتانيا إذ قال: إنها مؤسسة تعليمية بدوية متنقلة، تكون متخصصة في فن معين، وأحياناً شاملة جامعة لشتى العلوم الشرعية، تضم جماعة من الطلاب مختلفة أعمارهم تحيى حياة اجتماعية بسيطة، هدفها التفقه في الدين، وتحصيل التقوى والخلق الكريم، يديرها معلم في فن أو فنون يسهر على التدريس فيها، ورعاية هدفها حسبة، وربما ضم إلى مهام التدريس الإمامة والقضاء  ويُلقب غالبا(بالمرابط) ولعلها جاءت من رباط المرابطين الذين كان رباطهم النواة الأولى للمحاظر وقد يلقب: ب( طالبنا ) من طالب العلم، وأصل الكلمة:  (محضرة ) ، وفي أبيات ابن حزم المشهورة: (مناي من الدنيا علوم أبثها ...) وهي تقارب من وجوه، مصطلح الكتَاب أو الخلوات أو الزاوية في بعض البلدان الإسلامية. 
وتمام أبيات ابن حزم المشار إليها هي:
مُناي من الدنيا عـــلــومٌ أبثـــها  ***  وأنشرها في كـــل بــادٍ وحـاضر
دعاءٌ إلى القرآنِ والسنن الـــتي ***  تناسى رجالٌ ذكرها في المحاضرِ . 
ويمكن القول بأن المحاظر قد  ظهرت  في بلاد شنقيط  مع مقدم الفقيه عبد الله بن ياسين الجزولي ( تـ :   451هـ )، حين أسس رباطه إذ ذلك الرباط يعد هو النواة الأولى للمحاظر باتفاق المؤرخين.                                                                    
ويرجع بعض الباحثين بدايات المحظرة  إلى الفتح الإسلامي في القرن الثاني الهجري، إلا أن هذه البدايات كانت مقتصرة على كتاتيب القرآن ولم تتجاوزها.   وبعد استشهاد ابن ياسين تولى مهمة التدريس العالمان: الإمام الحضرمي ( ت: 489 هـ )، والإمام إبراهيم الأموي (ت : 500 هـ). وانتشر التعليم المحظري في المدن والحواضر حتى نهاية القرن العاشر الهجري، وخصوصا في المدن التاريخية الأربعة: شنقيط، ـ وادان ـ  تيشيت ـ ولاته.
وبدأ انتقال المحاظر إلى البادية وازدهارها فيما تراجع العطاء العلمي للمدن التاريخية بسبب الحروب الأهلية ـ وتتابع هذا الازدهار منذ القرن الحادي عشر الهجري في البادية، وهي ظاهرة جديرة بالتأمل، يقول الدكتور أحمد بن حبيب الله: " إذا كان العلم صنعة لا يمكن أن تزدهر إلا في المدن والحواضر كالصناعات عامة  ـ حسب نظرية ابن خلدون الذي يقول: ( إن التعليم إنما يكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، وذلك لأنه صناعة ) ـ فإن الواقع الشنقيطي القديم والحديث قد قلب الأطروحة الخلدونية رأسا على عقب ". 
ويمثل هذا الطور العصر الذهبي للمحظرة طوال مسيرتها التاريخية حيث بلغت أوج ازدهارها في القرن الثالث عشر ومطلع القرن الرابع عشر الهجري.
ولكن هذا الإشعاع بدأ في التراجع والانحسار مع دخول الاستعمار الذي بدأ بمضايقة المحاظر بإنشاء المدارس الحديثة، فتأثرت المحاظر بذلك ،بالرغم من مقاومة أهلها له وصدور فتاوى تحرم دخول تلك المدارس الحديثة التي فتحها المستعمر.
كما ساهم في انحسار دور المحظرة  أزمة الجفاف والتصحر مع أوائل سبيعينات القرن العشرين، فتأثرت المحاظر بها أكثر من غيرها بسبب الهجرة الكثيفة لسكان البادية إلى المدن بحثا عن العمل والعيش، بعد تأثر اقتصادهم البدوي الناتج عن الجفاف .  
غير أنه تأسست في العاصمة معاهد ومدارس يتبع بعضها منهجا توفيقيا بين وسائل العصر ومناهجه وروح المحظرة وبرامجها ،ومنها : مدرسة العون، ومعاهد الفاروق، وابن عباس، وخالد، والمعاهد التابعة للتجمع الثقافي الإسلامي. كما أسست الدولة المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية . وبقيت هناك محاظر في العاصمة وغيرها تتحدى كل تلك العوامل ولا زال عطاؤها مستمرا وإشعاعها متواصلا.
وأما منهج  المحظرة ومعارفها فيصف ذلك العلامة المختار بن حامدن فيما يلي:
الدرجة الأولى : القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والتصوف، والسيرة، والغزوات، وفتوحات الصحابة وأنسابهم.
- الدرجة الثانية : اللغة، والنحو، وعلم البلاغة، والعروض، وأنساب العرب وأيامهم.
- الدرجة الثالثة : المنطق، والتاريخ، والجغرافيا، والحساب، والفلك، والهندسة.
وتختلف المحاظر في ترتيب المعارف حسب الجهات؛ فبعضها المحاظر تبدأ بالفنون اللغوية، ثم العقائد، ثم الفقه. وبعضها يبدأ بالفقه أولا.
بيد أن مناهج الدراسة تتركز في ثلاثة فنون رئيسية لا تخلو منها محظرة، وهي : الفقه، واللغة، والنحو. وقد تزيد عليها بعض المحاظر فنونا أخرى كالتفسير والحديث والسيرة.
وللشناقطة ملكة حفظ نادرة، وطاقة ذهنية عالية جعلتهم يفخرون في ثقة واعتزاز بقدراتهم على استذكار عشرات الكتب، وجعلت العلامة سيدي محمد بن العلاّمة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي رحمه الله (ت : 1250هـ) يقول: ( إن علوم المذاهب الأربعة لو رمي بجميع مراجعها في البحر لتمكنت أنا وتلميذي ألْفَغّ الديماني من إعادتها دون زيدٍ أو نقصان، هو يحمل المتن وأنا أمسك الشروح ). 
وجعلت العلاّمة محمد محمود بن التلاميد التّرْكُزي رحمه الله ( ت : 1322هـ) يزهو بحافظته متحدياً الأزهريين بأنه أحق بإمامة اللغة والاجتهاد فيها منهم؛ لأنه يحفظ القاموس كحفظه الفاتحة، فاستبعدوا ذلك وعقدوا له مجلساً بالأزهر، فكان كما قال،فأقرّوا له وصاروا يصححون نسخهم من نسخة التركزي رحمه الله المحفوظة في صدره.
وهذا النابغة الغلاوي : فقد كانت له همة عالية ورغبة شديدة في العلم .. سافر من أرض الحوض ،يريد من يصحبه ليتعلم عليه ،فكان كلما اجتمع بعالم وعرض عليه طلبه يسأله العالم : أي فن تريد أن تقرأ ،فلا يراجعه الكلام بعد ذلك ،حتى لقي العلامة الشهير أحمد بن العاقل الديماني ،فقال له : ( مشِ ) ،[ أي : ابدأ بدرسك ] فألقى عصا التسيارعنده ،وجعل يعلمه من معينه الجاري حتى تضلع منه . 
كل هذا مع الترحال وانتجاع الكأ وشح الموارد ولله در العلامة  المختار بن بونه إذقال :
ونحن ركب من الأشراف منتظم ** أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة **  بها نبين دين اللــه تبيانـا .
والعيس هي الإبل.
 وقد وصف أحد خريجي هذه المحاظر ،وهو أحمد بن الأمين الشنقيطي ظروف أصحابها فقال متحدثا عن العالم في بلده : " إذا نظرت إليه من جهة التدريس تجده يكابد من الأتعاب ما لا يحصى ،فقد يستغرق يومه كله في التدريس لأن الشيخ عندهم لا يلزم الطلبة أن يشتركوا في درس واحد في فن من الفنون ... أما ما يكابده العالم من مشاق الدنيا ،فهو أنه يكون موردا للضيوف وللمستفتين ،ولطالب الحاجة . وليس للقاضي ولا للمدرس هنالك أوقاف تصرف عليهما ،ولا يأخذ أحدهما من الطلبه ،بل قد يعطيهم من يده ،والمفتي أيضا لا يأخذ شيئا في مقابلة الفتوى ... ولا ضابط للهيئة التي يلقي عليها المدرس عندهم ،فتراه مرة يدرس ماشيا مسرعا ،ومرة جالسا في بيته ومرة في المسجد ،ومنهم من يدرس في أثناء الارتحال من جهة إلى أخرى سواء كان ماشيا أو راكبا ،وقد يكون راكبا والطلبة يمشون على أقدامهم في ناحيته ". 
وختاما أقول إن ما ذكرته حول المحظرة لا يكفي وقد كتبت بحوث حولها يمكن الرجوع إليها مثل بحث محمد المصطفى الندوي" دور المحاظر في موريتانيا " وبحث الدكتور الداي إيوه " المحاظر في موريتانيا" وقد تضمنت هذا المقال كثيرا مما كتبه وهناك مقالات ينصح بقراءتها أيضا لها تعلق بالموضوع كمقال الدكتور محمود محمد المختار الشنقيطي " لماذا الشناقطة يحفظون ؟" وهو منشور بمجلة البيان العدد / (135/ 100) ،ذو القعدة - 1419هـ مارس - 1999م (السنة: 13)
د. أباي محمد محمود.

الثلاثاء، 25 أبريل 2017

مقال للاستاذ باب احمد القصري


قال محدثي: أبا عبد الملك.. أأنت من قبيلة "الشنقيطي"؟!  أواجه بين الفينة والفينة أسئلة من هذا القبيل في مشرقنا الإسلامي، ليس من العامة فحسب، وإنما من بعض الخاصة! وأحيانا يتملكني الحزن لضعف تصور بعض أحبتي للجغرافيا في عصر موت المسافات، وعدم اطلاعهم - بما يكفي - على إسهاماتنا العلمية والثقافية المشهودة. والواقع أن لتصرم حبال الوصل بين جناحي الأمة شواهد من التاريخ، فالإمام ابن حزم رحمه الله شكا هذا الهم في شعر جميل أخاذ:

أنا الشمس في جو العلوم منيرة ** ولكن عيبي أن مطلعي الغــــرب
ولو أنني من جانب الشرق طالع ** لجد على ما ضاع من ذكري النهب

ولقائل أن يقول: لدى ابن حزم - نفسه - قصور في الاطلاع على تراث المشارقة، حتى إنه قال عن الإمام الترمذي: مجهول! والأقرب أن ذلك وهم، فقد ذكره وأثنى عليه في "الرسالة الباهرة".

وَ"انقطاع الاتصال" هذا لم يكن سمة بارزة في القديم، ولم تكن الأمة يوما "جزرا ثقافية متباعدة" كما يصورها البعض، والدليل هذا التراث الهائل من الأسانيد والإجازات والشروح والردود العلمية، التي ينصهر فيها المشارقة والمغاربة، في انسجام وتكامل قل نظيره، وقد تجشموا في سبيل ذلك عناء الرحلة، وجابوا الآفاق مع بعد الشقة وقلة الزاد.

أما نحن فقد قصرنا في توظيف الإمكانات والتيسيرات المادية الكثيرة في سبيل ردم الهوة، ومد جسور التواصل بين مغربنا ومشرقنا.. لنسمو في مدارج الكمال، وننهل من معين العلم والمعرفة، فيتصل ما لدى المغاربة من عمق وعبقرية بما عند المشارقة من منهج وحركية.


الأهمية الكبيرة جعلت من "شنقيط " عاصمة علمية وثقافية لشمال وغرب القارة، حيث يفد إليها طلاب العلم والباحثون، لينهلوا من تراثها الثر، كما أضحت ملتقى للحجيج، منها تنطلق القوافل إلى البيت العتيق، مرورا بالسودان ومصر فالحجاز
·          
وحتى لا نذهب بعيدا دعونا نعود لشنقيط!..
 شنقيط - يا أحبتي - ليست قبيلة ولا عائلة .. شنقيط حاضرة إسلام، ومنارة علم، ورباط جهاد، تأسست أواسط القرن الثاني الهجري على يد مهاجرة الفتح الأول، تقع في موريتانيا اليوم، وقد بقيت لقرون مركز تجارة تلتقي فيه قوافل الصحراء، وهمزة وصل بين شمال وجنوب القارة السمراء، تخللت مسيرتها عبر التاريخ فترات ركود، قبل أن تستعيد ألقها في القرون الأخيرة.. وشنقيط اليوم مدينة وادعة، تغفو في أحضان تلال ذهبية، ترصعها واحات نخيل غناء، ولا تزال مساجدها القديمة ومكتباتها العامرة خير شاهد على إشعاعها المعرفي، وإسهاماتها الحضارية، ولا غرو!.. فهي "مدينة المكتبات" و "مكة موريتانيا".

هذه الأهمية الكبيرة جعلت من "شنقيط " عاصمة علمية وثقافية لشمال وغرب القارة، حيث يفد إليها طلاب العلم والباحثون، لينهلوا من تراثها الثر، كما أضحت ملتقى للحجيج، منها تنطلق القوافل إلى البيت العتيق، مرورا بالسودان ومصر فالحجاز، لذا كانت "شنقيط" أم قرى الصحراء بحق، وعرف الإقليم بـ"بلاد شنقيط" وأهله بالشناقطة، وواحدهم "شنقيطي".. كان ذلك بالطبع قبل نشوء الدولة الحديثة.

ولا شك أن الزخم الكبير، والشهرة الواسعة التي حققها الشناقطة في المشرق، ترجع في المقام الأول لكوكبة من العلماء العاملين والدعاة المصلحين، الذين عرفوا بالإحاطة والرسوخ العلمي، والعمق المعرفي، والحفظ لمختلف العلوم، وسائلها وغاياتها، فقد تأسسوا في "جامعات الصحراء" (المحاظر) وفق منهج تعليمي فريد.

وقد تقلد سفراء العلم الشناقطة أرفع المناصب العلمية والإدارية في البلاد التي شرفت بمقامهم، فهذا فخر شنقيط الإمام العلامة محمد محمود التلاميد التركزي يتصدر المشهد العلمي في أرض الكنانة، حتى اعترف عميد الأدب العربي أن "لم يكن درس اللغة العربية بالأزهر مهما قبل مجيء الشيخ الشنقيطي"، كما انتدبته الخلافة الاسلامية لمشروع علمي رائد، تمثل في حصر الكنوز العلمية الإسلامية في المكتبات الغربية، وهو من أخرج للأمة القاموس المحيط وغيره من دواوين العربية.

وعلى هذا المنوال نسج أئمة أعلام، منهم العلامة المجيدري حبيب الله، والعلامة محمد الأمين الحسني نزيل الزبير وشيخها، والعلامة محمد الخضر مايابى الجكني، والعلامة أحمد الأمين العلوي، والعلامة الإمام محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان، حيث لا تزال آثارهم شاهدة على عمق التأثير في حواضر المشرق.

إن استمرار النموذج الشنقيطي في التأسيس العلمي والاشعاع المعرفي مرهون ببقاء "الدرس المحظري"، فهذا النموذج مصمم ليوائم حياة الانتجاع، وقد حققت جامعات الصحراء الغاية وشكلت استثناء في تاريخ العلوم، وجعلت من شنقيط البداوة العالمة الفريدة:

قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة... بها نبين دين الله تبيانا
 
يجب تنزيه وصيانة هذا اللقب الشريف من الامتهان، فقد كان عنوانا للرسوخ المعرفي والاحاطة العلمية، وكذلك يجب أن يبقى، فلا يحسن بصغار طلبة العلم حمل هذه النسبة "الشنقيطي"، أحرى أن يخوضوا بها الوحل المعرفي، ويغردوا خارج السرب
·          
ولأن مخاطر كثيرة تتهدد هذا النموذج، فإنه لا مناص من وضع خطط للاستمرار وإعادة الهيكلة، وحلول واقعية للتحديات المرتبطة بالموارد والمناهج، والتفكير في إطار للتكامل مع المنظومة التعليمية الرسمية، ومواءمة مخرجات المحظرة للاحتياجات في واقع الحياة، بعيدا عن الحلول الترقيعية، وسياسات التجفيف والتحجيم.

إن المنظومة المحظرية - لظروف النشأة - اعتمدت المنهج التلقيني، وغاب عنها التدوين في الغالب، وهو ما يجب تلافيه بنفض الغبار عن التراث المحظري، وإخراجه بأدوات العصر، الذي تراجعت فيه الثقافة الشفاهية وساد التدوين، فعلى كتابنا جمع ما تفرق في السطور والصدور ليكون ذاكرة للأجيال، ومَعلما للأمة يهدي في دروب الحياة.

كما يجب تنزيه وصيانة هذا اللقب الشريف من الامتهان، فقد كان عنوانا للرسوخ المعرفي والاحاطة العلمية، وكذلك يجب أن يبقى، فلا يحسن بصغار طلبة العلم حمل هذه النسبة "الشنقيطي"، أحرى أن يخوضوا بها الوحل المعرفي، ويغردوا خارج السرب، فمن كان منكم ذا شذوذ وشطحات، فليمارس شذوذه باسمه واسم أبيه، وليدَع لنا هذا الرمز أبيض ناصعا، لا تدنسه مطامع أو مطامح.
المصدر: مدونات الجزيرة.


وصلى الله على الهادى الأمين