بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 25 أكتوبر 2015

نصيحة البت لجميع كنته



رسالة رغم صغر حجمها (6 صفحات) فقد اشتملت على فوائد جمة و نصائح هامة ، ليس فقط لجميع كنته ـ كما هو عنوانها ـ بل أيضا لجميع الناس ، و قد اخترت أن أضعها أمامكم بنسختها ، و بطباعة أولية تسهيلا لقراءتها لمن لم يتعودوا قراءة المخطوطات ، حرصا مني على استفادة الجميع . و أسأل الله تعالى أن ينفعنا بها جميعا . آمين .
بسم اللله الرحمن الرحيم . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله .
قال الشيخ سيد المختار الكنتي رضي الله عنه و أرضاه و جعلنا ممن تولاه و اصطفاه :
الحمد لله الذي أزال عنا السنة و الأسنة ، بالحكمة و الموعظة الحسنة ، و أحيا قلوبنا بحيا السنة و الكتاب ، و مجالسة العلماء أولي الألباب ، حتى أفاض علينا من بحور الحكمة و فصل الخطاب ميادين يقصر عن إحصائها الحساب ، و روح برياح أسماعها الطيبة أرواح أهل وداده و أصفيائه ، فشرح سرائرهم في رياض روضة قدسه و سنائه .
أحمده على ما وفق إليه من رشاده و أمدني به من إياده ، و أشكره على فضله المتواتر الوافر ، و أسأله المزيد من عطائه و كشف غطائه .
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الفرد المنفرد في صمدانيته بعز كبريائه ؛ واصل من انقطع إليه إلى حضرة قربه و ولائه ، و أدرجه في سلسلة خاصته و أحبائه ، فأشرقت مشكاته في سلسلة خاصته و أحبابه .
و أشهد أن سيدنا محمدا عبده المرسل بأصح القول و أحسنه ، و رحمة لأهل الأرض و سمائه ، الماحي المختار الموضوع بشوارق بوارق شريعته وسيلة .
و بعد ؛ لما رأيت كثرة الفساد و الإلحاد ، و غلبة الغفلة على العباد ـ إلا من بمنه عصمهم ، و قل ماهم ـ قصدت ؛ و الله الموفق للصواب ؛ و وضعت موعظة لي و لكل لباب ، رجاء و إكماعا مني في الثواب ، و اقتداء بقوله جل من خالق : { أدع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة } . و أرجو أن يكون ممن يحيي النفوس ؛ إذ قد قال جل في كتابه المؤسس : { و من أحياها ...} الآية . فهذا في الحياة المجازية فكيف بالحقيقية !. و كذالك قوله تعالى : { و الرسول يدعوكم لما يحييكم } .
و حذفت فيها الأسانيد للإختصار ، و سميتها : نصيحة البت لجميع كنته . و كلما فيها صحيح من الكتاب و السنة ، مفهوم معلوم نافع لمن نور الله بصيرته ، و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور .
أوصيكم و نفسي وصية الأخ لأخيه و الحبيب لحبيبه ، رجاء منه أن أكون من أهل الدين ، لقوله عليه الصلاة و السلام : (( إنما الدين النصيحة )) ، و قوله تعالى : { و أنصح لكم ...} الآية .
أما بعد ؛ أوصيكم بتقوى الله و إمساك ألسنتكم ؛ فإن اللسان أعدى الأعداء و أصدق الأصدقاء ، لخبر : ((لسانك أسدك ؛ إن أمسكته نجوت منه ، و إن أطلقته أكلك )) ، وقوله عليه الصلاة و السلام : (( أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاث ؛ عالم لم ينفعه الله بعلمه ، و مكثر الخوض في الباطل ، و عاق لوالديه )) . قال عمر لشاب مر به ذات يوم : " يا شاب ! . إذا وقيت شر ثلاث فقد وقيت الشر كله ؛ لقلقك أي لسانك ، و قبقبك أي بطنك ، و ذبذبك أي فرجك [فقد وقيت الشر كله] " . و قال عليه الصلاة و السلام لمن اختصر له في الوصية ((اتق الله و امسك لسانك )) فيكرر السؤال ثلاث مرات و هو يكرر الوصية ، فقال : يا رسول الله ! ؛ أيعذب أحد بلسانه !؟. فقال له عليه الصلاة و السلام : ((ويلك أو يحك ـ شك الراوي ـ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم )) .
و من آفات كثرة الخوض أيضا أنه يكثر الغلط و يؤدي إلى النطق بالمشكوك فيه ، فيؤدي إلى الكذب الذي هو من أكبر الكبائر و أنكر المناكر ؛ لخبر : (( كل شيء يطبع عليه المؤمن ليس الكذب و الخيانة )) .
و من آفاته أنه يفسد الدين ، و يقسي القلب ، و يقلل الرزق ؛ لخبر : (( إذا رأيت وهنا في دينك و قساوة في قلبك أو إبطاء في رزقك ؛ فاعلم أنك نطقت بما لا يعنيك )) .
و من الحكمة : "إذا كان الكلام فضة فالسكوت ذهبا " .
و من الحكمة أيضا : " كن أبخل الناس بما إذا أخرجته لم تقدر على رده ، فتندم حيث لا تنفعك الندامة " .
و قال مالك : " من عد كلامه من عمله أقله " .
و من آفات كثرة الخوض أن صاحبه لا تنفعه شفاعة الشافعين ؛ و ذالك قوله تعالى : { ما سللكم في سقر قالوا لم نك ...} الآية .
و من آفاته أنه يتعب الكرام الكاتبين ، و يسر الشياطين ، و يغضب رب العالمين ، و فاكهة الغافلين ، و كسب الضالين ؛ لقوله تعالى:{و من الناس من يشتري لهو الحديث ...} الآية .
و من آفاته أنه من الذنب الذي لا يرجى غفرانه إلا بالتوبة ، لاستصغار الناس له غالبا . و ذالك قوله تعالى : { و تحسبونه هينا ... } الآية . و لخبر : (( لا صغيرة مع الإصرار و لا كبيرة مع الاستغفار )) . و لخبر : (( إن الله يغفر الصغائر باجتناب الكبائر مالم يصروا[...] )) .
و في حكمة لقمان أنه أرسله سيده ذات يوم إلى شاة مذبوحة ؛ فقال : إيتني بأطيبيها ! . فأتاه بلسانها و قلبها . فقال له: إيتني بأمريها ! . فأتا بهما أيضا . فقال له : مالي أمرتك أن تأتني بأطيبيها فأتيتني بلسانها و قلبها ، و أمرتك أن تأتني بأمريها فأتيتني بهما أيضا !؟ . قال : هما أطيب طيب إذا طابا و أخبث خبيث إذا خبثا .
و من آفات النطق بما لا يعنيك ؛ أنه يضلك و يرديك ، لخبر : (( إن الرجل ليدخل الجنة بكلمة الحكمة كما أنه يدخل النار بكلمة الفضول )) و منها قوله عليه الصلاة و السلام : (( دع ما يريبك إلى مالا يريبك )) . قال علي كرم الله وجهه في هذا المعنى :" من علم أن السفر طويل و الحمل ثقيل و العمر قصير ؛ فكيف يشتغل بما ليس يعنيه " . و قال عليه الصلاة و السلام : (( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )) . و هذا الأثر شامل لجميع أنواع ما ليس يعني ، و حقيقته :
في اللسان ؛ تكلم الإنسان بالكلمة ليضحك الجلاس . وقال أبو الحسن على الرسالة : " حقيقته تكلمك فيما لا ينفع الآخرة " . و قيل : حقيقته كل كلمة لا يحصل لك بها نفع .
و في العين ؛ نظرها بغير اعتبار في الأشجار و الأرض و البنيان .
و في القلب ؛ التفكر فيما إذا نطق به اللسان عد مما لا يعنيه . و ذالك قول أبي بكر : " من لم يكن نظره اعتبارا فهو لهو ، و من لم يكن سكوته تفكر فهو سهو ، و من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو " .
و في اليد ؛ تخطيطها .
و من غوائله أيضا ؛ الغيبة . و هي القت الذي قال فيه صلى الله عليه و سلم : (( لا يدخل الجنة قتات و لا نمام و لا لحم ربى من حرام )) . و روى السيوطي في الخصائص الكبرى أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الناس ذات يوم ألا يفطروا إلا عنده ، فلما غربت الشمس أقبل الناس إليه للفطور فأخذ يفطرهم إذ وقف رسول امرأتين من نسائه فقال له : يا رسول الله ! ؛ إن فلانة و فلانة يستفطرانك . فأعرض عنه النبي صلى الله عليه و سلم ، ثم قالها ثانية فأعرض عنه ، ثم قالها ثالثة فالتفت إليه فقال : (( إنهما لم تصوما )) فذهب النبي صلى الله عليه و سلم إليهما فدعى بإنائين عظيمين ، فأمرهما أن يتقايئا ، فتقايئا حتى امتلأ الإناءان ، فقال : ((أميل إحداكما إلى صاحبتها فتأكلا لحم صاحبتكما فتقولا إنكما صائمتان )) .
و حقيقتها ؛ ذكر الرجل أخاه بما يكره خلفه بما هو فيه و إلا فقد بهته . و كذالك لو ذكر دابته أو ثوبه أو شيئا مما يتعلق به بما يكره . و منه قوله عليه الصلاة و السلام لعائشة : (( قئي قئي )) لما قالت : يا رسول الله ! هذه المرأة طويلة الذيل ؛ فاستقاءت فقاءت مضغة لحم ، وقال : (( و الذي نفسي بيده لو متِّ و هذا في بطنك لدخلت النار و لا أغني عنك من الله شيئا )) .
و من خساسته أنه أشد حرمة من أكل ميتة الحمير ، و ذالك لما يروى أن النبي صلى الله عليه و سلم كان ذات يوم ذاهبا إلى المسجد حتى أتاه رجل فقال له : هلكتُ يا رسول الله ! . فقال له :(( مالك؟)) ؛ فقال له : واقعت امرأة كما أواقع زوجتي . فقال : (( آنت محصن أو عازب ؟ )) قال : بل محصن . فقال له : (( أدع الناس ليرجموك )) فدعى الناس فذهبوا به فرجموه . فبعد ذالك غزى النبي عليه الصلاة و السلام و معه رجلان ، فلما كانا في أثناء الطريق تأخرى فأخذا يغتابانه فيقولان : كان فلان مستورا ففضح نفسه حتى رجمه صلى الله عليه و سلم . فمر النبي صلى الله عليه و سلم بجيفة حمار فقال لهما : (( إئتيا و كلا من هذه الجيفة )) فقالا : أليست حراما !؟ . فقال : (( أوليس لحم أخيكما أحرم منها !؟ . فو الذي نفسي بيده إني لأراه يجر ثيابه في الجنة )) . فأنزل الله تعالى : { و لا تجسسوا و لا يغتب بعضكم بعضا } الآية .
و روى أن في جهنم واديا اسمه غي ؛ عقاربه كالبغال الدهم و إن جهنم و بئر الفلق يستعيذان منه في كل يوم سبعين مرة ، و لا يدخله إلا ذو الغي أو الخوض في الباطل و تارك الصلاة و ذو الوجهين ؛ و ذالك قوله تعالى : { و خلف من بعدهم خلف } الآية .
و قال الثعالبي : " آكلون القهوات ، مضيعون الصلوات ، تابعون الشهوات ، فسوف يلقون غيا " .
و هذا وصف أهل زماننا هذا ـ إلا من عصمه تعالى ـ لا سيما أهل البوادي منهم ، و هم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه و سلم : (( سيهلك من أمتي أهل اللبن . قالوا : و ما أهل اللبن يا رسول الله ؟. قال :هم الذين يميتون الاسلام و يتبعون الشهوات ، و لا أخاف عليهم إلا من اللبن ؛ لأن الشيطان بين الضرع و اللبن )) و لذالك نبأ الباري عز وجل على كونه عبرة لمن اعتبر و نقمة على من ابتدر؛ و ذالك بقوله : { و إن لكم في الأنعام } الآية .
و عليكم بالصت ؛ فإن من صمت نجا . قال السيوطي : قال عليه الصلاة و السلام : (( طلبت خمسة فوجدتها في خمسة ؛ الغنى في القناعة ، و السلامة في الصمت ، و صفاء القلب في صيام الصيف ، و رضوان الله في إكرام الضيف ، و خير الدنيا و الآخرة في قيام الليل )) .
و قال عليه الصلام و السلام : (( من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت )) .
و من غوائله ؛ النميمة . فإياكم و إياها فإنها تورث العداوة و تشيع الفاحشة و تزيل الخلة و تؤدي إلى القطيعة ، حتى قيل ؛ إن النميمة ما كثرت في قوم قط إلا كثر فيهم الخلاف و الجفا و النزاع . و ذالك أصل كل فساد و ضلال دنيا و أخرى . و ذالك قوله صلى الله عليه و سلم : (( لا تخالفوا فتذهبوا فإن أمما قبلكم تخالفوا هلكوا )) و كان يكره الخلاف . و لا يقع إلا على ضلالة ، و ذالك قوله تعالى :{ فماختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } ، {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك } وهو منتهى الهلاك و مقدمات النزاع ، و ذالك قوله تعالى : { و لا تنازعوا فتفشلوا } الآية . و منه قوله عليه الصلاة و السلام : (( لعن الله النمام فإنه يقطع بين المتحابين )) و قوله : (( لا يدخل الجنة نمام )) . و يكفيك من ذمه أنه من أوصاف الوليد بن المغيرة ؛ و هو قوله تعالى : { هماز مشاء بنميم } الآية . و قوله أيضا : { ويل لكل همزة لمزة } الآية . قال أبو جريج : الهمزة بالعين و الشدقين و اليد ، و اللمزة باللسان ، و هو أِشد من الغيبة لزيادة البغضاء و العداوة .
قال النووي : حقيقتها نقل الحديث عن الشك ليمريه على وجه الإفساد ، و هي سم قتل ترياقها الإعراض عنها ، و ذالك قوله تعالى : { و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } .
من ذالك قول الشاعر :
و أَلْغِ أحاديث الوشاة فقلما *** يحاول واشٍ غيرَ هجرانِ ذي وُدِّ .
و من غوائله ؛ الكذب ؛ و هو أكبر الكبائر.
قال أبو الحسن : حقيقته ؛ نطقك بما لم تشاهد عيناك و لم تسمعه أذناك و لم تنقله عن موثق .
قال مالك : إذا كنت متكلما بكل ما سمعت فأنت كاذب .
قال بعضهم : حقيقته نقل الشيء على خلاف ماهو عليه .
قال تعالى : { و من أظلم ممن افترى على الله كذبا } الآية .
قال صلى الله عليه و سلم : (( لا يزال العبد يكذب حتى يعد عند الله كاذبا )) . و أخرج الترمذي ((إن العبد إذا كذب كذبة تخرج من فيه حتى تبلغ ساق العرش ، فتقول ؛ أنا كذبة فلان لعنه الله ، فيلعنه الله و الملائكة ، فتكتب سبعون خطيئة ، كل خطيئة مقدار جبل أحد .
و ينقسم إلى خمسة أقسام : واجب ، و جائز ، و مندوب ، و حرام ، و مكروه . و قد نص على ذالك صاحب (درر المسالك) إذ قال :
للخمسة الأقسام قسموا الكذب *** فمنه مندوب و منه ما يجب
مــندوبــه للــحرب و الإرهـــاب *** لكـــافر مخـــادع كــذاب
واجـــبـه لفــك مال مسلم *** أو مال نفسه ، حقيق في الدم
مباحه يا صاح للإصلاح *** بين الورى ما فيه من جناح
مكروهه لزوجة تطييبا *** لـنفســـه و لابنــه تحـبـيـبا
حرامه هو الذي لغير مــا *** منفعة شرعية قد علما
و قـــال قــوم كــله قبــيح *** و هو في مذهبنا الصحيح .
و إياكم من القيل و القال ، و كثرة السؤال ، و إضاعة المال ، فإنها أسباب لكل ممات و ضلال .
و أسباب هذه الآفات ؛ كثرة ملاقات الناس لا لحاجة ؛
و ذالك قول الشاعر :
لقاء الناس ليس يفيد شيئا *** سوى الهذيان من قيل و قال
فأقلل من لقاء الناس إلا *** لأخذ علم أو إصلاح حال
و من يطلب سوى هذين يردى *** و كل نفسه طلب المحال .
و إياكم و كثرة المزاح فإنها تسقط المروءة و تزيل الهيبة ؛ لخبر : " من مازح استخف به " .
قال علي كرم الله وجهه : اجعل مزاحك كالملح في الطعام ؛ فمازح و لا تستكثر ، و إذا مازحت فلا تقل إلا حقا ؛ فإن الكذاب ملعون و لو كان مازحا .
و إياكم و جلساء السوء ؛ فإن من جالس مجالس السوء التهم .

اهـ
من صفحةالباحث عبد الله بن عابدين.

هناك تعليق واحد:

تضمين الرسالة أدناه

وصلى الله على الهادى الأمين