بحث هذه المدونة الإلكترونية
الاثنين، 2 نوفمبر 2015
الشيخة لاله عيشه .. مثال المرأة الصالحة .
في عام عُرَف " بالبطحاء " ؛ ظهرت إلى الوجود نجمة ستصبح لاحقا قمرا يعانق الشمس في سماء الساحل و الصحراء ، و ظل ينير الدروب مقدارَ عُمرِ النبي الكريم عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم ، و لما خسف القمر ، بكته أجرام الأرض ؛ فسال الدمع مدرارا على روضة حوت من قال عنها الشيخ سيديا الكبير :
و فِيــكِ دُرَّةُ غَوْصٍ مَا تَجُــودُ بِهَا ** لِلْغَائِصِينَ مَدَى الدَّهْرِ الْقَمَامِيــسُ
غَـــرَّاءُ طيِّــــبةُ الأرْدانِ مُنــجِــبةٌ ** مَيمُــونّة ٌلا تناديــها المَناحــيــسُ
سمْحًا مُوَطّأَةُ الْأَكْنَــافِ مُفْــدِقَةٌ ** فَسِيحُ رَحْمَتِهَا لِلْخَلْــقِ مَكْنُــوسُ
عُيُـــونُ أَجْدَانِــهَا لِلْجَــارِ جَــارِيَّةٌ ** فَكُلَّــمَا أَنْفَدُوا بَعْضَ الْجَدَى إِيسُوا
حَازَتْ مِنَ الْخَصْلِ ما عَنْ شَأْوِهِ وُجِدَتْ ** عُونُ الْكِرَائِمِ حَسْرى وَ الْعَطَامِيسُ .
وُلدتْ " رابعة الأزرقية " بعد أخواتها ربات العفاف : فاطمة ، و خديجة ، و ميجة . و قبل إخوتها الأخيار : سيدي محمد ، و سيدي الأمين ، و سيدي الحبيب .
إنها الشيخة لاله عيشه بنت سيدي المختار بن سيدي الأمين (الأزرق) ، دفين المبروك ب "انبيكه" في تامرت انعاج بموريتانيا ، بن احمد بن محمد بن سيد احمد (فقيه كنته) ، دفين " امبالات" شمال الرشيد الموريتاني ، بن الحاج أبي بكر بن سيدي احمد البكاي بن سيد امحمد الكنتي . و أمها لاله آسية بنت الشيخ سيدي محمد بن سيدي عبد الرحمن بن سيدي محمد أبي نعامة .
يُجمع المترجمون لها ؛على اتصافها بالعلم و السياسة و العقل و الصلاح . و قيل إنها المرأة الوحيدة التي لقبت بالشيخة في التراث العربي ـ الإسلامي القديم .
ولدت في " أزواد " عام ( 1160هـ ـ 1747م ) في بيت عز و شرف ، فنشأت على الاستقامة و المروءة ، و تجلت عليها أمارات الصلاح و الولاية منذُ الصغر ، فكانت تُخبر عن الحوادث فتكون كما أُخبرت . و قد أُخْبِرتْ ذات مرة و هي صغيرة بمقدم الشيخ سيدي المختار الكنتي ، وبأنها زوجه ، فكتمت الأمر حياء ، فكان يأتيها رجلان يتوعدانها إن لم تخبر بما رأت ، و لما عاوداها و غمزها أحدهما في يدها حتى ورمت ؛ حدثت بالأمر الذي كوشف به الشيخ كذالك ، و هو يومئذ في رحلة إلى موريتانيا مكث خلالها بعضة أعوام .
و في العام ( 1170هـ ـ 1757م ) ؛ تحققت الرؤيا الصادقة فور عودة الشيخ إلى " أزواد " ، فزفت ربة العفاف في عامها العاشر إلى بيت عز آخر أسس على التقوى من أول يوم فيه . فكانت نعم المرأة الصالحة وراء الرجل العظيم . و شهدت معه المشاهد كلها من بداية نشأة الزاوية المختارية التي غيرت مجرى الحياة في منطقة الساحل و الصحراء بفكرها الإصلاحي المتكامل .
عُرفت رحمها الله تعالى طوال حياتها بالتقى و الورع و الزهد و العبادة ؛ " فلا تكاد تراها في نفس من أنفاسها خالية عن ذكر أو فكر أو تلاوة لكتاب الله عز و جل ، أو قراءة لأورادها من أحزاب و أدعية ، و أذكار متداولة عن سلفها الصالح ، أو صلاة نافلة ، أو قراءة ل " دلائل الخيرات " و " شوارق الأنوار " ، بوجه خارق للعادة لا يكاد يتفق لغيرها . مع إصلاح شؤونها الضرورية ، و قيامها غالبا بغالب مؤن الزاوية " و تلك لعمري أمارات المرأة الصالحة القادرة على الجمع بين أمورها الدنيوية و الأخروية .
و قد أودع الله قلبها من الشفقة و الرحمة بعباده و جميع مخلوقاته ما يجل عن الوصف ؛ فكانت تمرض لمرض المريض و تُشفى لبرئه و تجتهد في الدعاء له . و إذا رأت طائرا أو كلبا به عطش أمرت بحمل الماء له .
لم تقبل الشيخة التقية الزاهدة الناسكة أن يكون حجابها حائلا بينها و بين تدبير شؤونها الدنيوية ، فقد كانت عينا ساهرة ، تقيم الأعوج ، و تصلح الفاسد ، و تربي النشأ و تسهر على مصالح العباد ، رحمةً بالصغير ، و شفقةً على الضعيف و المريض و ذي الحاجة بسخاءِ عزَّ نظيره .
ومن مأثور قولها : " إنما نحن غرباء بدار غربة ، و الفقراء و المساكين حملة يحملون ما بأيدينا من دار غربتنا إلى دار أوبتنا ، و الكيس من نقل جميع ما في الدار المتنقل عنها إلى الدار المتنقل إليها " .
كانت و زوجَها الشيخ الكبير عنوانا للأسرة المسلمة النموذجية ، في تعاونها و تكاملها الذي لم يسلم منه ميدان التدريس ، إذْ ليس حكرا دون النساء العالمات من أمثالها ؛ و قد ذُكر أنهما ختما في وقت واحد تدريس مختصر خليل ، ، أما الشيخ فختمه للرجال ، و أما الشيخة فختمته للنساء . فرحمة الله على من كانا فرقدي سماء ، و زندي وعاء .
و في ليلة الأحد 14 يناير 1810 م ؛ رحلت عن عالمنا العالِمةُ العاملة ، و المربية الصالحة ، و المنفقة السخية ، فكانت وفاتها يتما للضعيف ، و المسكين ، و المريض ، و ذي الحاجة ، و عابر السبيل ، و الطالب المغترب ، و الجار ذي القربى و الجار الجنب ، فضلا عن أسرتها و عائلتها و عائلتها الكبيرة .
و قد رثاها ـ من بين من رثاها ـ زوجها القطب الجليل و العالم النحرير الشيخ سيدي المختار الكبير بقصيدة ، يقول فيها :
عَفَا اللهُ عَمَّنْ لمْ تُقــاربْ صغيرة ** و لا كبيرة حتى أتى الموتُ مغلقا .
ثَوَتْ جــانبا بالبـيـت تعـبـد ربــها ** على ثقة من وعده تجتني التقى
فما غرها من زخرف العيش رائق ** و ما غـــرها تِبْــرٌ نفيـسٌ مروقا
تُقــدّم دنيـــاها ليوم معـــادها ** فلا البخل تُلفيهِ لديها و لا الشقا
و لا ثمَّ ريــاء و لا ثمَّ سمـعـة ** بل الجــود طبعا تزجيــه نية اللقا
سقاها من التنسيم غبا وفاتها ** و أسكنها الفردوس في روضة التقى
مع الحور و الولدان يرفلن عدوة ** بوشي جميل في الجنان تألقا.
من صفحة الباحث عبد الله بن عابدين.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
وصلى الله على الهادى الأمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تضمين الرسالة أدناه